الظلم ظلمات في الاخرة ، ونزع للبركات في الدنيا
الحمد الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما كما جاء في الحديث القدسي : ' يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا '؛
وصلى الله وسلم وبارك على نبي الرحمة القائل محذرا من دعوة المظلوم : ' واتقوا دعوة المظلوم فإنها ليست بينها وبين الله حجاب \ .
وبعد ..
فإن الظلم عاقبته وخيمة ، ولا يصدر إلا من النفوس اللئيمة ، وآثاره متعدية خطيرة في الدنيا والآخرة ؛ وإذا تفشى الظلم في مجتمع من المجتمعات كان سببا لنزع البركات ، وتقليل الخيرات ، وانتشار الأمراض والأوجاع الآفات .
والظلم قبيح من كل الناس ولكن قبحه اشد وعاقبته أضر إذا صدر من ولاة الأمر نحو رعاياهم ، حيث يصعب رفعه عنهم وإزالته منهم ، لما للحكام من السطوة والأعوان ، ولأن من أهم حقوق الرعية على الرعاة دفع الظلم عنهم ، وحماية الضعفاء من جور الأقوياء ، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه عندما ولي الخلافة : ' الضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ' ، أو كما قال .
وظلم ولاة الأمر يُجَرِّئ اتباعهم وأعوانهم على الظلم ويدفعهم إليه دفعا لما
لهم من المكانة والحظوة واستقلال النفوذ .
إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص لقد انتبه بعض الحكام الكفار لخطورة الظلم فخافوه وهابوه ، لآثاره الظاهرة ومضاره الواضحة في الدنيا قبل الآخرة ، من نزع البركات وقلب النعم نقمات ، بمجرد إضمار السوء وإبطان المكر ، قبل إعلانه والإفصاح عنه .روى المنذري في الترغيب والترهيب ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : ' أن ملكاً من الملوك خرج من بلده يسير في مملكته مستخفٍ من الناس ، فنزل على رجل له بقرة ، فراحت عليه تلك الليلة البقرة ، فحلبت مقدار ثلاثين بقرة ، فعجب الملك من ذلك ، وحدث نفسه بأخذها ؛ فلما كان من الغد غدت البقرة إلى مرعاها ثم راحت فحلبت نصف ذلك ؛ فدعا الملك صاحبها وقال له : أخبرني عن بقرتك لِمَ نقص حلابها ؟ ألم يكن مرعاها اليوم مرعاها بالأمس ؟ قال : بلى ، ولكن أرى الملك أضمر لبعض رعيته سوءاً فنقص لبنها ، فإن الملك إذا ظلم ، أوهمَّ بظلم ذهبت البركة ؛ قال: فعاهد الله الملك ربه أن لا يأخذها و لا يظلم أحدا ؛ قال : فغدت ورعت ثم راحت فحلب حلابها في اليوم الأول ؛ فاعتبر الملك بذلك وعدل ؛ وقال : إن الملك إذا ظلم أوهمَّ بظلم ذهبت البركة، لا جرم لأعدلنّ ولأكونن على أفضل الحالات ' . وذكره ابن الجوزي رحمه الله في كتاب \ ' مواعظ الملوك والسلاطين \ ' على غير هذا الوجه ، قال : \ ' خرج كسرى في بعض الأيام للصيد ، فانقطع عن أصحابه وأظلته سحابة ، فأمطرت مطرا شديداً حال بينه وبين جنده ، فمضى لا يدري إلى أين يذهب ، فانتهى إلى كوخ فيه عجوز ، فنزل عندها ، وأدخلت العجوز فرسه ، فأقبلت ابنتها ببقرة قد رعتها فاحتلبتها ، ورأى كسرى لبنها كثيراً ، فقال : ينبغي أن نجعل على كل بقرة خراجاً ، فهذا حلاب كثير ؛ ثم قامت البنت في آخر الليل لتحلبها فوجدتها لا لبن فيها فنادت : يا أماه قد أضمر الملك لرعيته سوءاً ؛ قالت أمها : وكيف ذلك ؟ قالت : إن البقرة ما تبز بقطرة من لبن ؛ فقالت لها أمها: اسكتي ، فإن عليك ليلا ؛ فأضمر كسرى في نفسه العدل والرجوع عن ذلك العزم ، فلما كان آخر الليل قالت لها أمها: قومي احلبي ؛ فقامت فوجدت البقرة حافلا ، فقالت : يا أماه قد والله ذهب ما في نفس الملك من السوء ؛ فلما ارتفع النهار جاء أصحاب كسرى فركب ، وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما ، وقال : كيف علمتما ذلك ؟ فقالت العجوز: أنا بهذا المكان منذ كذا و كذا، ما عمل فينا بعدل إلا أخصبت أرضنا، واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجور إلا ضاق عيشنا وانقطعت موارد النفع عنا \ ' .وذكر الطرطوشي في كتابه ' سراج الملوك ' : ' أنه كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب تمراً ، ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك ، فغصبها السلطان ، فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة ' . وذكر ابن خلكان في ترجمة جلال الدولة ملك شاه السلجوقي، أن واعظاً دخل عليه ، فكان من جملة ما وعظه به أن بعض الأكاسرة اجتاز منفردا عن عسكره ، على باب بستان فتقدم إلى الباب ، وطلب ماء ليشربه ، فخرجت له صبية بإناء فيه ماء قصب السكر والثلج ، فشربه فاستطابه ، فقال لها : هذا كيف يعمل ؟ فقالت إن القصب يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء؛ فقال: ارجعي واعصري شيئا آخر ؛ وكانت الصبية غير عارفة به ، فلما ولت قال في نفسه : الصواب أن أعوضهم غير هذا المكان وأصطفيه لنفسي ؛ فما كان بأسرع من خروجها باكية ، وقالت إن نية السلطان قد تغيرت ؛ قال : ومن أين علمت ذلك ؟ قالت : كنت آخذ من هذا بغير تعب ، والآن قد اجتهدت في عصره فلم استطع ؛ فرجع عن تلك النية ، ثم قال لها : ارجعي الآن فإنك تبلغين الغرض ؛ وعقد في نفسه أن لا يفعل ما نواه ، فذهبت ثم جاءت ومعها ما شاءت من ماء القصب ، وهي مستبشرة .قال وكان ملك شاه من أحسن الملوك سيرة ، حتى لقب بالملك العادل وكان قد أبطل المكوس 1 والخفارات في جميع البلاد فكثر الأمن في زمانه '. آثار العدل من ولاة الأمر الإيجابية من بسط الأمن ، والبركة في الأرزاق والأقوات والأوقات من ناحية ، وآثاره السلبية من نزع للبركات ، ومحق في الأقوات والثمرات والأوقات من ناحية أخرى ، ظاهرة مشاهدة جلية ، كما دلت على ذلك الأخبار السابقة والآثار السالفة إذا انتبه بعض الملوك الكفار لأهمية العدل وخطورة الظلم لبعض المشاهدات ، فحري بالحكام المسلمين أن يعوا ذلك ويفهموه للأخبار الصحيحة الصريحة التي وردت عن صاحب الشريعة ، والسيرة المضيئة التي سلكها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون من هذه الأمة في عصور الإسلام المختلفة ، حيث كان العدل رائدهم الإنصاف مقصدهم .ولم يكن عدلهم هذا قاصراً على المسلمين ، بل شمل أهل الذمة والمعاهدين و نحوهم ، بينما نجد اليوم بعض الحكام المسلمين ينالون من بعض إخوانهم المسلمين ما لم ينله منهم الكفار المعاندون ، بل إن بعض المسلمين حرموا من أوطانهم وأولادهم ولم يجدوا مأوى لهم إلا في ديار الكفار . فكل المسلم على المسلم حرام ، دمه ، وعرضه ، وماله ، ولا ينبغي للحكام ولا لغيرهم أن ينالوا من ذلك شيئا إلا بحق الإسلام . عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : ' لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ' 2 ؛ وعن عائشة كذلك ترفعه : ' من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين ' 3 ؛ وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : ' وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد . ' 4فاحذر أخي المسلم ، حاكما كنت أو محكوماً ، من الظلم ، والغش ، والتعدي على حقوق الآخرين ؛ وأعلم أنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى يقتص منك ، فإن دعتك قدرتك اليوم وسطوتك على ظلم الآخرين فتذكر قدرة الله عليك يوم القيامة ، واعلم أن أخطر أنواع الظلم بعد الإشراك بالله ظلم العلماء والأولياء ، فقد أعلن الله حربه على من عاداهم : ' من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب '5 .بالعدل قامت السموات والأرض ، وبالعدل يصلح الراعي والرعية ، وبالعدل تسعد البشرية وتأمن الرعية . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' يوم من إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون الأرض إليه ' 6 . وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز : \ ' إن مدينتنا قد احتاجت إلى مرمَة ، فكتب إليه عمر : حصن مدينتك بالعدل ، ونق طرقها من المظالم \ ' .وقال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما : ' ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ' ، فقال عمر : ' إلا من حاسب نفسه ' ؛ فقال كعب : \ ' والذي نفسي بيده إنها لكذلك : إلاَ من حاسب نفسه ، ما بينهما حرف ' ، يعني في التوراة . ومن الأمثال السائدة في السلطان : إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة ؛ لا صلاح للخاصة مع فساد العامة ؛ لا نظام للدهماء مع دولة الغوغاء ؛ الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم . وقال مجاهد : المعلم إذا لم يعدل بين الصبيان كتب من الظلمة . والله أسأل أن يجنبنا وجميع إخواننا المسلمين الظلم ، وأن يوفقنا للعدل والإنصاف ، في الشدة والرخاء ، والرضا والغضب ، وأن يصلح الرعاة والرعية ، وأن يؤمن المسلمين في أوطانهم ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من غير أنفسهم ، وأن يقيهم شر أنفسهم ، و صلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ؛ ودمتم سالمين في عالم يسوده طاعة الله والمحبة بالله والالفة والخير والطمئنينة ان شاءالله وان يسود عالمنا السلام والأمان اللهم آمين والسلام.